وعي الشاهد لبناء فكر مرن
تخبرني السيدة أنها عالقة بين طموحها وبين إحساسها بالمسؤولية تجاه عائلتها، وأنها تختبر إحساسا بالذنب يجعلها تغالي في العناية بالعائلة، ومن ثم تشعر بالحنق لدرجة تجعلها ترغب بالتخلي عن كل شيء، كما لو كان عليها اختيار جانب وإهمال الآخر - وفي كليهما، لا تنتبه إلى أنها تحاول إيجاد حل لتلك المعضلة عن طريق التفكير، فبالنسبة لها وللعديدين، الفكر هو سيد القرارات، والصورة الذهنية التي رسمتها عن الموقف تعيق قدرتها على إيجاد حلول. إذ لا ينتبه الكثيرون إلى أن طبيعة الفكر تحول كل شيء إلى الأبيض أو الأسود.
يا أبيض، يا أسود!
منذ الصغر، تعود الكثيرون على النظر إلى الحياة من منظور الفكر الثنائي، بمعنى أن الأمور هي هذا أو ذاك فقط، أو "لا شيء أو كل شيء". على سبيل المثال:
- هذا الشخص ممتاز وذاك الشخص سيء؛
- نحن على حق والآخرون على خطأ؛
- هذا المعتقد حقيقة والآخر باطل؛
- الشخص إما ناجح أو فاشل.
مثل هذا التفكير يؤمن بالمُسلّمات، ويرسم صورة ذهنية جامدة تصبح هي المقياس الذي يستخدمه صاحبه في الحياة وفي حكمه على الأمور والأشخاص وعلى ذاته. يتسبب هذا النوع من التفكير في عزل الشخص لذاته، فعندما لا يتفق الآخرون مع تفكيره، فهو يعمد إلى إخفاء قناعاته رغم تشبثه بها، ويضع قناعا اجتماعيا مقبولا، يتركه في حالة صراع داخلي، يتسلل إلى العلن أحيانا كحالات غيرة أو غضب - أو غيرها من المشاعر التي تطفو على السطح فجأة دون مقدمات، وبخاصة في مواقف حياتية معقدة، مثل التفاعل مع العائلة - بالأخص التفاعل مع العائلة. وتتحول تلك الطاقة مع الوقت إلى آلام جسدية.
ويفشل الكثيرون في تطوير ذهنية مرنة قادرة على تمييز الفروقات الدقيقة بين النقيضين. ويعود ذلك العجز إلى عدة أسباب، ليس أقلها ترومات الطفولة وطبيعة البرمجة المجتمعية والثقافية التي أحاطت به. ومع الوقت ينغلق التفكير على ذاته، وعوضا عن تطوير ذهنية مرنة، يطور الشخص صورا ذهنية عن ذاته وعن الآخرين، ويحيط تلك الصور بآليات دفاعية من المعتقدات والمشاعر والانفعالات والسلوكيات لحمياتها من أي تحدٍّ أو تغيير.
الخطوة الأولى للتحرر من الصورة الذهنية
سأقولها دائما، نحن وعي شاهد، وعندما يعرف الشخص أن هناك تفكير (الكل/لا شيء)، فإنه سيبدأ بملاحظة ذلك التفكير ومراقبة الانفعالات المرافقة له. السيدة في المثال السابق لاحظت الصورة الذهنية التي لديها: هي إما ناجحة في طموحها أو غارقة في مسؤولياتها العائلية. قدرتها على التحول من ذهنية الحكم على الذات (وعلى الآخرين) إلى الفضول لرؤية ما وراء تلك الصورة ساعدتها على الوصول إلى هدوء أعمق وأصبحت أكثر انفتاحا لتتساءل عن إمكانية وجود طريقة مختلفة لإدارة وقتها وطاقتها، والمحافظة على اتزان العائلة وفي الوقت ذاته تجربة مشروع جديد.
لا توجد صور ذهنية إيجابية. وفي صميمها، الصور الذهنية هي طاقة متجمدة وجامدة. فحتى الصورة الذهنية الإيجابية تحول دون رؤية الشخص للحقيقة والتعامل مع الواقع والمساهمة في معالجته. وهي تتسبب في خداع الشخص لنفسه بتمسكه بما هو غير حقيقي.
وعلى العكس من ذلك، يسمح وعي الشاهد للطاقة الذهنية بالتدفق، دون محاولة التحكم فيها بتغييرها أو تعديل شدتها وتدفقها في داخله. فهو - أي وعي الشاهد - قادر على السماح بتدفق السلبي والإيجابي بشكل محايد، دون أحكام، ودون زيف. أيضا، وعي الشاهد مقرونا بحس التعاطف مع الذات قادر على تحرير الطاقة المتجمدة في الصورة الذهنية، والسماح لها بالتدفق كطاقة خلاقة ومبدعة.
تطوير وعي الشاهد
يجهل معظم الأشخاص أن لديهم القدرة على تطوير وعي الشاهد، ومن خلاله يستطيع الشخص مراقبة أفكاره ومشاعره دون التماهي معهما، ودون إصدار أحكام على الذات أو على الآخرين، ما يمكنه من رؤية المواقف بوضوح، والسماح لواقع جديد بالتجلي. وتطوير وعي الشاهد هي عملية تعتمد على الممارسة والالتزام تجاه الذات، ليبدأ الشخص بمراقبة الذات كما لو كان ينظر إلى ذاته من خلال مجهر.
أولا: التأمل هناك الكثير من تمارين التأمل، بالنسبة لي أفضلها وأكثرها فاعلية هو أبسطها دون تعقيدات: الجلوس في وضعية مريحة، مع ظهر مستقيم - إن أمكن- والتركيز على التنفس دون محاولة التحكم بوتيرة النّفَس. فقط مراقبة الهواء يدخل إلى منخري الأنف ويخرج منهما. مجرد المراقبة ستساعدك في تنظيم تنفسك. اضبط المنبه لمدة 5 دقائق، وكرر التمرين يوميا دون توقعات.
ثانيا: المراجعة اليومية لا أستطيع تأكيد أهمية التدوين بهدف المراجعة اليومية للأحداث التي تسببت في تحريك شعور مزعج لدى الشخص. وهذا التدوين لا يتم في الصباح فقط. ولكن بعد كل ما يسبب لك إزعاجا خلال النهار. البعض يفضل التدوين أولا بأول، وآخرون يفضلون الكتابة آخر النهار. جد الطريقة الأنسب لطبيعتك وطبيعة حياتك. ولكن دوّن يوميا.
ثالثا: الاستراتيجية والسلطة الداخلية عندما تبدأ بتطبيق استراتيجيتك وسلطتك الداخلية وفق نظام (هيومان ديزاين) فأنت تبدأ بملاحظة عدة أمور منها: كيف تتخذ قراراتك، ما هي أفكارك عند اتخاذ قرار، وتفاعلك مع الآخرين من حولك. مثلا، إن كانت استراتيجيتك تعتمد على الانتظار، فأنت ستبدأ بملاحظة المرات التي تبادر فيها مع الآخرين، وكيف يستقبلون مبادرتك، وشعورك خلال التجربة. أيضا، من خلال السلطة الداخلية ستلاحظ انجذابك بشكل فطري إلى ما يهمك، وبهذا تبدأ بتخصيص الوقت والمساحة اللازمتين لتلك الأمور التي طالما أجلتها.
وهنا أيضا يكون عليّ التحذير من التفكير "الأبيض والأسود" المتعلق بتطبيق هذه التمارين. فلكل تجربته، ونستطيع القول وبشكل سليم أنك ستفشل مرات عديدة في تطبيق التمارين، واستخدام سلطتك الداخلية. وهذا جزء من العملية المستمرة في تحرير الذهن من أي صور ذهنية تتعلق بالكمال، سواء عند الجلوس للتأمل، أو التدوين، أو اتخاذ القرارات.
لا نستطيع التخلص من الفكر، بل لا نريد التخلص منه، فهو ما يميز كياننا الإنساني. ولكن بالتأكيد لا نريد الفكر أن يقود الحياة من خلال الصور الذهنية. فهو خادم جيد، بل وحليف قوي في عملية تطوير وعي الشاهد، وبخاصة عندما يقترن بالقبول المتعاطف مع طبيعتك البشرية، والرغبة في التجربة والاختبار، وقبول الفشل وإعادة التجربة من جديد.
لقاء "لقاء الخميس" هو الوقت الذي تستطيعون فيه إرسال الأسئلة المتعلقة بنظام هيومان ديزاين، أو بمشاركة تجربتكم معه، والحصول على الدعم المناسب، سواء كان المزيد من المعلومات المتعلقة بتصميمهم أو من خلال الإرشاد الشمولي الذي يفتح إمكانيات مختلفة للتعامل مع الأمر الذي يواجهكم.
أيضا، هناك الدعم الذي تقدمه الجلسات الشمولية، والتي نكتشف خلالها جوانب التحدّي الذي يتصدى لنموك وتطورك الروحي والعاطفي والفكري والجسدي في مختلف مجالات الحياة. ومهما كان نوع الدعم الذي تحتاجه، تذكر أن المطلوب هو الإحساس بالشعور، والتخلي عما هو ضار، ثم الحصول على الدعم لتخطي ما هو مزعج ولكن مفيد.